تدوينات فايسبوكيةقضايا و رأيمقتبسات

مــحمــد القاسـمــي يكتب : المـــوت يتبــرَّأُ من أَخبـــارنا العَاجِلــة

كأنَّ ملكَ الموت قد صارَ في زمَنِنا مراسِلاً إعلاميًّا، أو عاشق هو أيضاً للبوز ، يلعبُ مَعَنا ، يخْرجُ لنَا ببياناتٍ مكتوبةٍ وتصريحاتٍ مَصوَّرة، يُطبقُ أمر ربِّه وقد يتراجع، إِعلامنا عطَّل مهام الرب صار يحيي ويميت ويحيي مرة أخرى ، لعلها مسرحية الإله كما كان يصفها الفلاسفة القدماء ، أرواح الرَّاحلين يُزجُّ بها في ميدانِ التراشقِ بين الجموع، مَن يرحم أَو يُرحمُ؟ ومَن هو أولى بالثناء؟ ومن تكفَّل بالميِّتِ حين سقَمه المَرض؟ وهل يستحقُّ ذلك المريضُ الشاحبُ الذي تغيَّرتْ ملامحُه وتقطَّبَ جسدُه احترامَنا، أم أنّ نشرَ صورِه في هوانِه أبلغُ رسالةٍ لتسخيفِ معاني الموت؟

يا للسخافةِ إذا صارت وفاةُ الإنسانِ مأتماً أخلاقيًّا قبل أن تكونَ مأتماً حقيقيًّا! إنّ الذين يقايضون الرحمةَ بالمواقفِ والمكاسب، ويحوّلون مصائبَ الموتى إلى مزايداتٍ مبتذلة، هم أولى بأن يُقذَفوا في طواميرِ النسيان، حيث لا مكانَ للإنسانية المبتذلة.

أليس الموتُ ذاته هو أعظمُ واعظٍ؟ نسمع كثيراً : “كفى بالموتِ واعظاً”، لكن أيُّ عظةٍ تُرجى لأمةٍ جعلت من الموتِ عرضاً مسرحيًّا، حيث يتبارزُ السفهاء على المنابر؟إنّ الفداءَ الحقيقيَّ للموت هو الصمتُ أمامَ هيبته، هو أن تتساقطَ الأقنعةُ حين تُضاء شمعةُ الرَّحيل، وأن تُلملَمَ الألسنةُ المتهوّرة وتُدفَنَ مع ما تحملهُ من غلٍّ وسوءِ ظنٍّ. ألم يُروَ عن النبيِّ، أنّه قال: “اذكروا محاسنَ موتاكم وكفُّوا عن مساوئهم”؟ فأين نحن من ذلك؟ لقد قتلوا فينا كل شيء حتى الإيمان بتلكم المواعض التي كانت لها قُدسيَّتها عبر التاريخ .

لكنّ أُمَّةً تترنَّحُ أخلاقُها لا تجدُ في الموتِ إلا مادةً للنزاعِ والمَزايدات البخيسة ، في حين أنَّ الفَجيعةَ الحقيقيةَ هي فقدانُ الرَّحمة في القلوب، لا فقدانُ الجسدِ للروح، إنّنا لا نعيشُ زمنَ الإعلامِ الحرّ كما يُقال، بل زمنَ الإعلامِ الحرون، الذي يُجاهرُ بموتِ الإنسانية في بثٍّ مباشر، دون خجلٍ أو خُشوع، إن الدموع التي تُذرف على الفراق لا تُسأل عن صدقها، فهي لغة الرُّوح حين تعجز الكلمات عن البوح .

لقد كان الأجدادُ يقولون: “الحيُّ أولى من الميِّت”، لكنّ هؤلاء لا أولى عندهم إلا صراخُهم الذي يُدنسُ حتى جثثَ الأموات، ويجعلُ من موتهم مُنازلةً قبيحة، يا ويلهم! أليست النفوسُ تستحيي من فكرة أنّ الموتَ نفسهُ صارَ في سوقِ الإعلامِ سلعةً تُباعُ وتُشترى؟أيُّ زمنٍ هذا الذي يعجُّ فيه الموتُ بالمتحدِّثين أكثرَ من الحيَاة؟ أيُّ قومٍ هؤلاء الذين تتسلَّلُ فيهم جُثثُ الإنسانيّة إلى المقابر دونَ أن يُشعَرَ بها؟، لقد صدق القائل: “إذا ماتَ الميتُ صمتَتْ أعضاؤه، فمتى تصمتُ ألسنةُ الحيِّ؟”

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى