تحت المجهرقضايا و رأيوطنية

دكرى 16 ماي حين انفجـ.ـرت الدار البيضاء ميلاد الدولة الأمنية الاستباقية من رماد الـ.ـدم.

بقلم: إيمان بوسويف.

شكّلت أحداث السادس عشر من ماي 2003 منعطفاً مفصلياً في مسار السياسة الأمنية بالمغرب، إذ لم تكن تلك التفجيرات الانتحارية التي هزّت الدار البيضاء مجرد جريمة إرهابية عابرة، بل كانت صدمة عميقة نكأت جرحاً داخلياً وأسقطت وهم الحصانة الجغرافية والأمنية.

فلأول مرة، وُوجهت الدولة بخطر إرهابي داخلي النشأة، تقوده عناصر مغربية استدرجها خطاب تكفيري متطرف، ونشأت في أحياء تعاني من التهميش والإقصاء. لقد انكشفت حدود المقاربة الأمنية التقليدية القائمة على التتبع وردّ الفعل، وبرزت الحاجة إلى إعادة هيكلة شاملة للمنظومة الأمنية برمتها، من حيث الرؤية، والوسائل، والتموقع الاستراتيجي.

في هذا السياق، عرفت المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني تحوّلاً عميقاً على المستويات التنظيمية والوظيفية، انتقل بها من جهاز شبه مغلق إلى فاعل استخباراتي مركزي يمسك بخيوط الرصد والتوقي من التهديدات الإرهابية، سواء داخل المغرب أو خارجه.

فبعد أن كشفت الهجمات عن قدرة الجماعات المتطرفة على التحرك داخل النسيج المجتمعي، وُضعت DGST في صلب المنظومة الدفاعية الجديدة التي تبنَت فلسفة استباقية، قوامها تتبع المؤشرات الأولية للتهديدات، وتفكيك الخلايا قبل تحوّلها إلى شبكات فاعلة.

لقد تحوّل الجهاز إلى عقل استخباراتي مرن، يعمل وفق منطق التوقع والوقاية، مستنداً إلى تقنيات الرصد الرقمي، وتحليل المعطيات الأمنية، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في فحص المؤشرات السلوكية ذات الطابع التطرفي.

هذا التحول لم يقتصر على البعد الوطني، بل تجاوزه إلى مجال التعاون الاستخباراتي الدولي، حيث ارتقى المغرب إلى شريك أمني موثوق به من طرف كبريات الأجهزة العالمية.

وقد رسّخ هذا التحول دور DGST كمصدر نوعي للمعلومة الاستخباراتية الدقيقة، إذ ساهم في كشف وتفكيك مخططات إرهابية كانت تستهدف عدة عواصم أوروبية، من بينها باريس، بروكسيل وبرلين.

والمفارقة أن المغرب، الذي كان يُنظر إليه كمستهلك للمعلومة الأمنية، أضحى فاعلاً مصدِّراً لها، ومنتجاً لآليات اشتغال حديثة تعتمد الشفافية المؤسساتية والانضباط القانوني، ما منحه مصداقية واعترافاً دولياً متزايداً.

إن الرهان الذي خاضه المغرب عقب تفجيرات 2003 لم يكن محصوراً في تعزيز الجاهزية الأمنية، بل شمل بناء مقاربة شاملة تُدرك أن التطرف لا يُهزم بالأدوات القمعية وحدها.

ولذلك سارت الدولة في اتجاه إعادة تأهيل الحقل الديني، وتحسين مناعة المجتمع من خلال التربية، وتحقيق العدالة المجالية التي تحول دون تحول الفقر والتهميش إلى خزّان بشري قابل للاستقطاب.

ولعل هذه الرؤية المتكاملة هي التي ضمنت للمغرب قدرته على الصمود، وعلى تجنيب أراضيه مآسي إرهابية جديدة، في وقت ظل فيه المحيط الإقليمي يعيش على وقع الفوضى الأمنية وتفكك الدولة.

من خلال هذا التموقع الجديد، لم تعد DGST مجرد هيئة تراقب التهديدات، بل أصبحت ركيزة من ركائز الأمن القومي، وفاعلًا دوليًا في مكافحة الإرهاب العابر للحدود، وهو ما كرّس صورة المغرب كبلد قادر على التكيف مع التحديات الأمنية الحديثة، ومُنتج لثقافة أمنية عقلانية تُوازن بين الحزم والحقوق، بين الردع والحكامة، وبين حماية الوطن والمساهمة في أمن العالم.

وهكذا، من بين رماد العنف وسواد تلك الليلة الدامية في الدار البيضاء، وُلد وعي أمني جديد تحوّل فيه الخوف إلى يقظة، والمأساة إلى درس استراتيجي.

لقد أدرك المغرب، في لحظة مفصلية من تاريخه، أن الأمن لا يُختزل في جدران وأسلحة، بل هو منظومة متكاملة من السياسات واليقظة والمشروعية.

فمن خلال مقاربته الاستباقية وتحديث جهازه الاستخباراتي، نجح في إعادة رسم معادلة الأمن الوطني، لا كحالة طارئة، بل كخيار استراتيجي دائم.

وبينما ما تزال جغرافيا الإرهاب تتغير وتتمدد، يظل النموذج المغربي مثالاً على كيف يمكن لدولة أن تحوّل جرحاً دامياً إلى نقطة انطلاق نحو بناء أمن ذكي، مستدام، وذو بعد إنساني.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى