تحت المجهرقضايا و رأيمقالات الرأيمقتبساتوطنية

الزاويـــة البودشيشيــــة… نار لا تحرق بل تنيــــر.

الزاوية البودشيشية، نار لا تحرق بل تنير. في مغرب اليوم حين تتصارع فيه السرديات وتتزاحم فيه المرجعيات وتتفكك فيه الرموز، تبدو الزاوية القادرية البودشيشية كياناً متعالياً على العواصف، وعصياً على الكسر ومتجذراً في أرض المغرب كجذور شجرة زيتون لا تموت، ولو صبت عليها نار الأيديولوجيا وسقتها سموم الحداثة المبتورة من أصلها الروحي.

وهنا لا نتحدث عن فلكلور موروث ولا عن زاوية متهالكة تبيع الحناء وتُقيم المواسم، بل عن مؤسسة سوسيو-روحية عميقة التجذر وفائقة التأثير وتشتغل في عمق الاجتماع المغربي، حيث تتقاطع الروح بالعقل ويتحاور الدين مع المجتمع، ويشتبك الباطن بالظاهر في ساحة المعنى.

ولأننا لا تتعامل مع المقدس إلا بوصفه ظاهرة اجتماعية فإن قراءة الزاوية البودشيشية في هذا الإطار لا بد أن تضعها ضمن ثنائية محورية وهي الروحانية والسلطة، ومن وهنا تبدأ الحرب الرمزية على التصوف عامة وعلى البودشيشيين خاصة.

فالتصوف كان ولا يزال خنجراً في خاصرة العقلانية الغربية حين تترجم نفسها إلى مشروع استئصالي بهدف إلى إقصاء ما لا يخضع للقياس وخصما لدودا للتيارات الإسلاموية التي أرادت حصر الدين في قنطرة السياسة، وجعله سلعة تُباع في أسواق الخطابة الانتخابية، وشوكة في حلق السلطة حين حاولت احتكار الشرعية الرمزية أو حين اعتقدت أن الولاء لا يُبنى إلا بالوصاية.

فالزاوية البودشيشية بهذا المعنى ليست مؤسسة وسطى بين النخب والشارع، ولا مجرد حلقة تربوية تعيد إنتاج الطقوس بل هي وفقا لمنطق عالم الاجتماع دوركهايم مؤسسة مقدسة تعيد إنتاج التماسك الاجتماعي في زمن السيولة والتفكك، وتصوغ ما سماه ماكس فيبر بـالشرعية الكاريزمية التي لا تشترى ولا تُورّث، بل تُكتسب بالمجاهدات والتجليات والمقامات.

وهنا تبرز شخصية الدكتور منير القادري البودشيشي لا كامتداد بيولوجي لشيخ الطريقة، بل كامتداد معرفي وروحي لتجربة متكاملة في بناء الإنسان، فالرجل الذي جمع بين عمق الشريعة ودقة الفلسفة وبين الخطاب الصوفي الأصيل والمقاربة العلمية الحديثة، أعاد تشكيل موقع الزاوية في المجتمع المغربي المعاصر، ليس بوصفها ملاذا روحيا فحسب، بل باعتبارها جهازا للحصانة الرمزية من كل أشكال التشظي والانهيار القيمي.

إن من يقرأ نصوص الدكتور منير القادري لا يرى فقط شيخا يردد تراتيل الذكر، بل مفكرا يحلل تعقيدات الدولة الحديثة ويحاور العقل الغربي ويفكك الخطر الأيديولوجي المغلف بعباءة الدين، ويُعيد الاعتبار لـمفهوم النية في زمن تحكمه الحسابات الباردة.

وإذا كان بعض الحداثيين يعيبون على الزوايا ما يسمونه بالانغلاق والتقليد، فإن ما لا يريدون الاعتراف به أن الزاوية البودشيشية استطاعت أن تطور نموذجا فريدا لـلحداثة الروحية، حيث يتجاور الذكر مع المنهج والحال مع المقال والنشيد مع الحوار العالمي، في انفتاح لا يفكك الثوابت بل يوسع دوائر الفهم.

وإذا كان بعض الإسلاميين يرون في الزاوية نوعا من التدجين أو الهروب من المواجهة، فالتاريخ وحده يكذبهم، فها هو سي المختار بودشيش من رموز الزاوية، وقد سجل بدمه شهادة انخراطها في جهاد الاستعمار الفرنسي، حين أحرق الجنرال ليوطي زاويته في بركان واعتقله لأنه كان الخطر الأول على سياسة الاستعمار في المنطقة الشرقية، فمتى كان العميل يعتقل ويعذب وتحرق زواياه؟.

وأما دعاة التنوير الذين يطلبون من التصوف أن يقدم دليلاً عقليا على الذكر والخلوة والتربية، فإن الرد لا يكون على البداهة والمسلمات، وهل يستدل على الشمس وهي طالعة؟! وهل يحتاج النهار إلى دليل؟!، فهم ببساطة يريدون أن يُخضعوا الذوق لميزان الجدال والذكر لمبضع التحليل، ويحسبون أن ما لا يُقاس لا يُعقل في حين أن أعظم التجارب الدينية هي التي تُعاش لا تُشرح، وتُذاق لا تُقال.

ولذلك فإن التصوف كما تمثله الزاوية البودشيشية، ليس هروباً من العالم، بل عودة إليه بوعي روحي أشمل، لإنه فعل مقاومة ضد تحويل الإنسان إلى أداة، وضد اختزال الدين في الفتوى، وضد العبث بالمعنى باسم التنوير.

والدولة الحديثة في المغرب رغم كل أدواتها لم تقوى على تقديم بديل أخلاقي مقنع للمجتمع، كما فشلت التيارات الإيديولوجية في تحقيق تماسك اجتماعي مستدام، لكن الزاوية في صمتها العميق أعادت نسج الحبال المقطوعة بين السماء والأرض وبين الفرد والجماعة وبين الإيمان والسلوك.

وإذا كانت بعض القراءات السوسيولوجية تركز على علاقة الزاوية بالسلطة من زاوية الوظيفة السياسية، فإن هذا البحث السطحي يهمل البُعد الأساس، ومؤداه أن الزاوية ليست جهازا من أجهزة الدولة، بل جهاز من أجهزة الأمة، وأدوارها الروحية والاجتماعية والتعليمية ظلت دائماً أكبر من حسابات المؤسسات أو تناقضات السلطة.

وها هي اليوم في عهد الدكتور منير القادري تتحول إلى منارة عالمية لا في المغرب فقط، بل في أوروبا وأمريكا وإفريقيا وآسيا، لتعلن أن الإسلام الروحي لا يزال قادراً على قيادة القلوب، حين تفشل كل المشاريع في قيادة المجتمعات، ففي عصر الانهيار، صمدت الزاوية، وفي عصر التفاهة تحدثت بلغة المعنى، وفي زمن الضجيج اختارت الذكر.

وإنها لمفارقة لافتة أن تنتصر الزاوية البودشيشية بأورادها وأناشيدها وخلواتها، على تيارات سياسية تملك المال والإعلام والتنظيم ولكنها تفتقد إلى جوهرة واحدة وهي الصدق، وكما قال أحد كبار أهل التصوف أنه لو علم القوم ما نحن فيه من نعيم، لجالدونا عليه بالسيوف.

وإلى كل من لا يؤمن إلا بما يُقاس فإن عليه التفضل إلى الزاوية لا كتجربة تراثية بل كمختبر روحي للأمل، وكمجال للممكن في زمن العجز وكصوتٍ أخير للمعنى في برية تسكنها الأصنام الجديدة، صنم الاستهلاك، وصنم السلطة، وصنم العلموية المتغطرسة.

إنها الزاوية البودشيشية… نار لا تحرق… بل تنير.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى