الزاوية البوتشيشية… السيد منير يأخذ الصحافة من ضجيج الحرف إلى سكون المعنى.

في مداغ تلك القرية الهادئة التي اختارتها الأرواح موطنا قبل أن تختارها الأقدام مقاما، حيث تتجاور الأزمنة ويتعانق السر بالعلن، فحل وفد من إدارة المجموعة الإعلامية (المساء، ريف تيفي، ديما تيفي، علاش تيفي) ضيوفا على الزاوية القادرية البوتشيشية، لا ليشهدوا مشهدا بل ليدخلوا في التجربة، ولم يكن الاستقبال الذي حظوا به مجرد ترحاب معتاد بل كان إفاضة من نور الطريقة وأدب الفقراء، حيث الكرم لا يقاس بما يعطى بل بما يسكب من طيب السرائر.
وكان في صف المستقبلين وجه من وجوه السالكين الأوائل من أولئك الفقراء الذين خالطوا الزاوية منذ بدايات النور، وعاشروا أهلها كما تعاشر الأرواح أرواحها، فهو رجل إن نظرت إليه حسبته غائبا عن شهود المجلس لكنه في سره أقرب من كل حضور، فقد غمره من الغيب ما جعله يرى ولا يرى وقد سكن مقام الصمت قبل أن يخلق الحرف، ويصغي لما وراء السمع وينظر من وراء الحجب بنور لا يستعار.
وحضرت إدارة المجموعة مجلس الذكر، المعروف بين أهل الزاوية بـالوظيفة، فوجدوا أنفسهم في حضرة زمن غير الزمن، حيث تتكثف الروح ويخف الجسد، وتصبح اللغة ضربا من النور كما قال ابن الفارض بكون لا حرف إن نطقت ولا معنى إذا سكت، وكان الذكر يتردد كنسيم الجبال، ينعش النفوس ويغسل قسوة العالم، في لحظة تفوح منها النورانية وتتماهى فيها الذات في نحن، كما وصف دوركايم الطقوس الجمعية بأنها لحظات يتحول فيها الفرد إلى كينونة جماعية عابرة للأنا.
وخلال لقاء الوفد بالشيخ الدكتور سيدي منير القادري البوتشيشي لم يكن الجلوس في حضرته حدثا عابرا، بل تجليا لحكمة المتصوف الذي لا ينفعل بل يتفاعل، ولا يهاجم بل يستوعب، ويذاكر القوم كما تذاكر الشمس الأفق في ضحاها ويشرح بما يشبه البيان القرآني كالقمر إذا تلاها، كالذي إذا تكلم دخل الكلام إلى القلب دون استئذان، استمع إليهم وفتح صدره لما نقل إليه ولم ينكر ولم يقصي، بل بسط رداء محبته وقال كما قال الشيخ سيدي جمال شفاه الله بأنه نحن لا نواجه الخصومة بخصومة، بل نردها بالحكمة والمودة، لأننا أبناء السلام والمحبة، ثم زاد من عنده موحدا مواقف القلوب قبل العبارات وأوقف ما وقع، كما يطفئ العارف نار الخلاف ببلسم السكينة.
وقد كانت عبارات الدكتور سيدي منير انعكاسا لطريقة تسير على هدي قوله بأن الصوفي لا يعادي لأن قلبه وِرد ولسانه ذكر وسلوكه سلام، فهو يدرك أن الكلمة التي تطلق في الفضاء الرقمي قد تجرح، لكن الجرح لا يرد بالجرح، بل كما علمه والده الشيخ سيدي جمال حفظه الله بأنه إذا ضاق صدرك، فاجعل من ضيقه متسعا للناس فهكذا يتعلم القلب أن يتسع لله، وهي الحكمة ذاتها التي ورثها عن الشيخ سيدي حمزة الذي قال بأن التصوف كله صدق ومن لم يصدق مع الله لم يذق حلاوة السلوك إليه.
وهكذا لم تكن الجلسة مناسبة لتبادل المواقف بل لحظة مكاشفة ومصارحة، أعادت للإعلام دوره الطبيعي بأن يرى لا أن يهاجم وأن يسأل لا أن يقرر، فلم يتعامل الشيخ الدكتور سيدي منير مع الإعلام بمنطق الغضب بل بمنطق التربية، حيث الكلمة تهذب قبل أن تناقش، وكأن صدى كلمات الشيخ حمزة رضي الله عنه يتردد في الأجواء أنه يا بني لا يهمنا أن يقال عنا خير أو شر المهم ألا نضمر في قلوبنا إلا الخير.
وتلك اللحظة كانت أشبه بتجسد فعلي لقوله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وقد تجلت ببلاغة حين رد الشيخ سيدي منير عنهم ولهم لا كرجل سلطة بل كمرشد سالك يحمل في قلبه وصايا آبائه، وفي عقله فقه المرحلة وفي سلوكه سر الطريقة.
إن ما جرى في مداغ من زيارة إعلامية إلى مصاف المكاشفة الصوفية، هو تجل لسوسيولوجيا الرموز كما عرفها بورديو، حيث تتحول الهيبة الرمزية إلى أداة دمج لا صراع، وإلى سلطة ناعمة تمارس بالتأثير لا بالإكراه، وهذا ما تجيده الزاوية البوتشيشية التي كما قال الشيخ سيدي حمزة قدس الله سره بأنها ليست دارا للجدل بل مقاما للسلم ولا تغلق أبوابها على أحد، لأن من يغلق قلبه عن الناس يغلقه عن ربه.
وهكذا حين يلتقي الإعلام الحقيقي مع التصوف الحق، لا يولد الحدث بل يتجلى المعنى، ولا يسطر خبرا بل تكتب تجربة فلا عجب أن يجد الصحفيون أنفسهم في حضرة زمن آخر، في زمنٍ لا يقاس بالساعة بل بالقلب ولا تحكمه العناوين العريضة بل تحكمه كما قال الشيخ سيدي جمال شفاه الله بأنها الأرواح إذا التقت تواصت بالسلام ولو سكتت الألسن.
ففي مداغ لم يكن المشهد صورة تلتقط، بل تجربة تذاق، والذوق عند الصوفية كما يقول الشيخ الدكتور سيدي منير بأنه أعلى من العقل لأنه نور يلقى لا حجة تلقى، لذلك فكل من حضر تلك الجلسة لم يخرج منها كما دخل لأن من دخل حضرة الذكر، لا يعود كما كان بل يعاد تكوينه بنور لا يرى لكن يشعر.