
تــحــريــر: هـــاجـــر القـــاسمـــي
المشيخة في الزوايا الصوفية ميراث سماوي لا يُقاس بمعايير الدنيا ولا يخضع لمقاييس السياسة، هي سرٌّ مكنون يُودع في القلوب ويُساق بالإذن عبر السلسلة المتصلة بأهل الله، فلا تُنال بالطلب ولا تُمنح بالمساومة، بل تُوهب لمن اصطفاه الغيب، وقد قال أبو يزيد البسطامي: “الولاية سرّ من أسرار الله، يقذفه في قلوب من يشاء، فلا يطّلع عليه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده”
لقد أوصى الشيخان حمزة وجمال، في حياتهما، وصيةً ظلّت راسخة في وجدان المريدين، وصية حملت اسم منير، ليكون امتداداً لنهرٍ قديم من النور، والوصية عند أهل التصوف ليست وثيقة يطويها الورق، بل عهدٌ باطنيٌّ يتصل بالسرّ، ويُتوارث كما يُتوارث النَّفَس في حضرة الذكر، ولهذا، تمسّك البودشيشيون بها كما يتمسك العاشق بوهج النور الذي يهديه في عتمة الطريق، وقد قال الشبلي: “المشيخة روحٌ تُساق من قلب إلى قلب، لا تُنال بالهوى ولا تُعطى بالرغبة”
ومنذ ذلك الحين، بدا واضحاً أن أي محاولة لإعادة صياغة المشيخة أو إدخالها في منطق المفاوضة محكوم عليها بالانطفاء، فالمريدون أعلنوا بلسان حالهم أن ما أودعه الله في قلوب أوليائه لا يمكن أن يُعرض للمساومة، ولا أن يخضع لتدخل أو نزاع، إنه سرٌّ سماويّ، محروس ببركة السلسلة المتصلة إلى حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد قال ذو النون المصري: “من أُعطي سرّ المشيخة، وُقِيَ من كيد الخلق، وصار له نورٌ يسبق قوله وفعله”
بين منير ومعاذ، لم يكن الأمر مجرّد خلاف بين شقيقين، بل كان انعكاساً لمعادلة روحية دقيقة، منير حُمل على كفّ الوصية وسرّ الإذن، بينما لم يجد مسار معاذ في قلوب المريدين صدى يوازي ذاك العهد المتوارث، وهكذا ترسّخت القناعة بأن المشيخة ليست وراثة ظاهرية، بل مقام يفتح أبوابه من الغيب لا من البشر، وقد قال أبو الحسين النوري: “المشيخة أمانة، من ادّعاها بغير إذن أفسد نفسه وأضلّ غيره”
في الزاوية اليوم، يتردّد صدى الولاء كابتهال جماعي، يتناقله المريدون بالأنفاس لا بالألسن، هناك حيث يقفون صفّاً واحداً، لا دفاعاً عن شخصٍ بقدر ما هو دفاع عن سرٍّ لا يُباع ولا يُشترى، يؤكدون أن مشيخة منير امتدادٌ لعهدٍ سماوي سبق أن ختمه الشيوخ بوصاياهم ودعواتهم، وكأن لسان حالهم يردد ما قاله أبو القاسم القشيري: “المشايخ أبواب، من دخل عليهم من غير إذن ضلّ، ومن دخل بإذن وصل”
إنها حكاية التصوف في صفائه، عهد يتوارثه أهل السلسلة كالنور، وبيعة لا تنكسر، ومشيخة تظل امتداداً لسرٍّ محفوظ في القلوب، لا يُدرك إلا بالذوق، ولا يُروى إلا بالوجد.
فمن يقدر على إقناع البودشيشيون أن غير منير القادري بودشيش شيخاً لهم …؟!